عَربسِرا (1/3): نحو الارتقاء بالشأن العلمي بمحاولة جمع العلماء والمتخصصين
مقدمة
أتناول في هذا المقال الرؤية لمشروع عربسِرا، الهدف منه والدافع من ورائه، وكيف تدرجت الفكرة. العجيب أن هذا المشروع مر بمراحل ثلاث. في كل مرحلة، لم يَجُب بخاطري على الإطلاق الانتقال أو حتى مجرد التفكير في وجود مرحلة تالية، ناهيك عن مشروع كامل. حتى المرحلة الأولى، لم تَجُب بخاطري يوماً ما. لكن الدافع المشترك لجميع المراحل كان إيصال العلم المتميز لجميع الطلبة، والذي لا يقل جودة عن أكبر الجامعات العالمية. والسبب المشترك للانتقال إلى مرحلة تالية كان نجاح المرحلة السابقة، حتى وصلنا لهذه المرحلة، وهي عربسِرا، والتي أرجو من الله تعالى أن يكتب لها النجاح على غرار المرحلتين السابقتين.
المرحلة الأولى: ما بعد الصدمتين
رجعت إلى مصر في عام ٢٠٠٧ بعد أن قضيت خمس سنوات في أمريكا، درست خلالها الماجستير في الإحصاء (Mathematical Statistics) والدكتوراه في تعلم الآلة (Machine Learning)، بالإضافة إلى العمل كباحث في الوكالة الأمريكية للغذاء والدواء (FDA) في فريق (Medical Imaging and Applied Mathematics).
بدأتُ بكل عزم وشَغَف في تدريس مادة التعرف على الأنماط (Pattern Recognition) لطلبة البكالوريوس، ولم يكن نظام الساعات المعتمدة قد تم تبنّيه بعد. وهذا يعني أن كل الطلبة لابد وأن يدرسوا المادة، ولا سبيل للرسوب فيها! الكل كان متحمساً؛ إدارة الكلية، الطلبة، وبالطبع هذا الدكتور الذي يحمل همَّ إيصال هذا العلم بأصوله الرياضية وتطبيقاته العملية معاً. ثم جاءت الصدمتان.
الصدمة الأولى
كانت الصدمة الأولى في المحاضرة الثانية، عندما بدأتُ، بعد المقدمة والتمهيد في المحاضرة الأولى، في كتابة بعض المعادلات التي ترتكز على مادة الاحتمالات (Probability Theory)، والتي من المفترض أن يكون الطلاب قد درسوا مادة واحدة منها على الأقل خلال الأعوام السابقة. ولكن المستوى الحقيقي للطلبة لم يكن يتجاوز القدر الذي درسوه في الثانوية العامة! استدعى ذلك أن أنزل بالمستوى العلمي لهذا الكورس (وأنا لا أدعو إلى ذلك أبداً، ولهذا تفصيل آخر لا يتسع له المقام) حتى صارت المحاضرات الأولى من مادة التعرف على الأنماط كمحاضرات مادة الاحتمالات! هذه الصدمة كانت لي في المقام الأول لعدة أسباب: حزناً على مستوى الطلبة الحالي، همّاً على محتوى الكورس الذي بين يديّ وكيف أقوم بتدريسه وهم يفتقدون المتطلب الأساسي لهذا الكورس، وأسفاً على مستوى الأساسيات المفقودة، التي تعني بكل بساطة تكرار المأساة في كل المواد.
الصدمة الثانية
إذا كانت الصدمة الأولى لي، فالصدمة الثانية كانت للجميع عند معرفة النتيجة من الكنترول، وطبعاً قبل إعلانها، حيث كانت نسبة النجاح لا تتجاوز النصف! على قدر ما تسعفني الذاكرة.
الاستشارة والاستخارة والقرار
في تلك الفترة، كنت قد أنشأت شركتي البحثية (MESC Labs)، التي كان يعمل معي فيها خريجون من نفس الكلية، والذين تجمعني بهم الصداقة بالرغم من أنهم تلامذتي. تشاورنا في الأمر، ثم كان القرار أن أقوم بتدريس مادة الاحتمالات وتسجيلها وإتاحتها على اليوتيوب لطلبة الكلية (وركز معي في الهدف المحدود الضيق)، حتى يكون لديهم المتطلب السابق لمادة التعرف على الأنماط، وحتى نتجنب المزيد من الصدمات للجميع. ساعد على هذا القرار أمران: عدم وجود كورس كامل في مادة الاحتمالات على اليوتيوب آنذاك، وإدراكي لأثر هذه الوسيلة بعد النجاح الباهر الذي حققه كورس المبدع العالم الأستاذ الدكتور Gilbert Strang of MIT في كورس الـ Linear Algebra.
كانت هذه هي المرحلة الأولى، مجرد تسجيل مادة واحدة، ولكن على مستوى علمي لا يتوفر (إن توفر) إلا في أكبر الجامعات العالمية، كي يتعلمها عشرات من الطلبة (ليس أكثر) في أحد الأقسام من إحدى الكليات، التي هي واحدة من الكثير من الجامعات في أحد البلدان العربية. لم يكن في بالي يوماً ما، قبل هاتين الصدمتين، أن أقوم بهذا العمل، ولم يكن لديّ أي خطة أو حتى مجرد التفكير في أن يتطور هذا القرار خطوة واحدة أبعد من هذا الهدف.
قمت بتدريس مادة الاحتمالات في العام التالي، وكنت أقوم بإلقاء المحاضرة في الكلية ثم إعادتها للباحثين في شركتي البحثية وتسجيلها، وكانت جودة التسجيل متواضعة (ولهذا سياق وموضوع آخر). اعتمدت في تدريسي للمادة المبادئ الثلاث التي يجب أن تقوم عليها أي مادة ألا وهي:
-
العمق والتأصيل الرياضي (rigorous mathematics)
-
الفهم والبديهة (intuition)
-
التطبيق والهدف العملي (applications)
المرحلة الثانية: التوسع
بعد حوالي عام من المرحلة الأولى (والأخيرة والوحيدة في بالي آنذاك)، حدثت أمور وأدركت أشياء سأذكر أهمها:
أدركت أن الخلل ليس فقط في عدم تدريس مادة بعينها تدريساً علمياً جاداً وأميناً، بل الخلل يكمن في إهمال معظم الأساسيات، إن لم يكن كلها، خاصة تلك المتعلقة بالرياضيات وتدريسها، وانعدام المبادئ الثلاث التي ذكرتها أعلاه.
إدراكي للنجاح الذي تحقق من خلال تسجيل مادة واحدة والفائدة التي عمت كثيراً من الطلاب، حتى ممن لا ينتسبون للقسم ولا للكلية ولا للجامعة. بل إن البعض كانوا يستوقفونني في الأماكن العامة ويتحدثون معي عن أثر هذه المحاضرات. تأكَّد لي ذلك أكثر من متابعة التعليقات ودراسة الإحصاءات التي يقدمها اليوتيوب للقناة، حيث تبين لي أن الكثير من المشاهدات تأتي من مختلف أنحاء العالم العربي.
إدراكي لفائدة الشرح والتحدث بقدر كبير من اللغة العربية (العامية) مع الإبقاء، قطعاً وحتماً، على المادة نفسها والمراجع والمصطلحات بالإنجليزية، لأنها لغة المجال (هذا سيتم تفصيله في المقال ٢/٣). التحدث الشفهي والإلقاء بالعربية (حتى مع وجود الكثير من الجمل والصياغات الإنجليزية) يزيل حاجز اللغة الكبير الذي يعاني منه العديد من الطلاب مقارنة بما يشاهدونه على الإنترنت من سائر الجامعات العالمية.
إدراكي أن القدر الأكبر من العبء في تسجيل الكورسات هو تأليف المادة العلمية نفسها (lecture notes) وليس عملية التسجيل، حيث أن إعداد (lecture notes) لمحاضرة مدتها ساعتان يتطلب مني يومين كاملين للتحضير والإعداد، إن لم يكن أكثر. هذا المجهود يتم بذله في جميع الأحوال طالما سأقوم بتدريس المادة في الجامعة. (بالطبع، تسجيلي للمادة يجعلني أكثر دقة وتدقيقاً وبذلاً للمجهود والوقت في إعداد الـ lecture notes).
إدراكي لقيمة الوقت وتحقيق أكبر قدر من الإنجاز في نفس الوقت المبذول (وهنا سأحيلك إلى مقالتي الأخرى عن الوقت وأهميته). فتسجيل الكورسات وإتاحتها يتطلب مجهوداً لمرة واحدة، ثم تُحصد الثمار في كل مرة يستفيد بها طالب بهذا العلم على مدار السنين. في حين أن الثمار تُحصد مرة واحدة فقط إذا تم تدريس المادة في مدرج الجامعة وينتهي موسم الحصاد مع آخر محاضرة في الفصل الدراسي. وهنا يتجلى معنى انقطاع عمل ابن آدم بعد الموت إلا بثلاث: إحداها علمٌ يُنتفع به. (هذا مع التأكيد على أنه لا غنى عن التفاعل المباشر مع الأستاذ والأسئلة والأجوبة والنقاش العلمي الذى يُفتقد فى الكورسات المسجلة.)
لهذه الأسباب مجتمعةً، قررت التوسع في الأمر وتدريس وتسجيل مواد أخرى بنفس المبادئ الثلاث التي ذكرتها أعلاه وهي الـ rigor, intuition, and applications. ومرة أخرى، يجب أن تكون كل مادة على مستوى علمي لا يتوفر (إن توفر) إلا في الجامعات العالمية المتميزة. وهنا تمكنت في هذه المرحلة (الثانية، والأخيرة في نظري آنذاك) بعون الله من تسجيل العديد من المواد وإتاحتها على القناة التي أنشأتها لهذا الغرض، حيث وضعت عليها كل الكورسات مجاناً وبدون إعلانات. (مع التأكيد على كامل الأحقية للآخرين في جعل قنواتهم بمقابل مادي، وأن هذا لا ينقص من قدرهم شيئاً، ولهذا حديث ومقال آخر ٣/٣). انتشرت الفائدة في أنحاء الوطن العربي حتى وصل عدد المشاهدات إلى الملايين. متابعة التعليقات أكدت لي أهمية وفائدة ونجاح الأمر الذي لم يكن بحسباني يوماً ما. وأنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد!
استمرت هذه المرحلة ما يقرب من تسع سنوات، اشتقتُ فيها للبحث العلمي بالمستوى الذي مارسته في الولايات المتحدة الأمريكية، بالرغم من إدراكي لقيمة إتاحة العلم للجميع على هذا المستوى. وحان وقت الرحيل في ٢٠١٩، حين تركت مصر وانتقلت إلى كندا، حيث أقيم الآن، لأعمل في جامعة فيكتوريا. وتركت خلفي ثلاثة عشر مادة كنت نويت تسجيلها على مدار سبعة أعوام مقبلة.
المرحلة الثالثة: عربسِرا
خمس سنوات مضت في انقطاع تام عن التدريس وتسجيل المواد والقناة العلمية على اليوتيوب، تفرغتُ فيها لما كنت أحلم به وافتقده من البحث العلمي بكافة نواحيه من: التقدم لمنح بحثية (grants)، التحليل الرياضي للمشكلة العلمية، كتابة الكود بنفسي، الإشراف على الفريق البحثي، ثم النشر العلمي في الدوريات الأولى في المجال وبراءة الاختراع الدولية، وكل ما كنتُ عليه من قبل في أمريكا.
ثم بدأت أعقد المقارنة بين فائدة ما أنجزتُه من بحث علمي وأثره على الطلاب والباحثين المعاصرين والقادمين من ناحية، وبين الفائدة التي تحققت لهم من المواد التي قمت بتدريسها وإتاحتها على اليوتيوب من ناحية أخرى. بل وما هي الفائدة التي كانت يمكن أن تتضاعف إذا قمت بتسجيل سائر الثلاث عشرة مادة الأخرى وإتاحتها أيضاً بنفس المستوى. ولمضاعفة الفائدة أضعافاً مضاعفة، لماذا يكون الأمر قاصراً على أستاذ واحد وعلى أوقات الفراغ أو التيسير؟ لماذا لا يكون مشروعاً محترفاً يجمع كل الطاقات والخبرات التي، لا أقول إنها لا تقل عن المستوى العالمي، بل هي المستوى العالمي نفسه؟
ثم بدأ يتضح لي أن هذا ليس بمثابة فائدة فقط للطلاب، وهم ركن واحد من أركان العملية التعليمية، حيث يُقدَّم لهم العلم بشرح عربي مع الحفاظ على المادة العلمية بلغتها كما ذكرت أعلاه. ولكن، بعد تفكير دام لشهور، ومناقشات واستشارات مع الأهل والأصدقاء وبعض الطلاب الذين تخرجوا من الجامعة وتربطني بهم علاقة الصداقة والثقة، تبين لي أن مشروع حياتي في الفترة المقبلة هو عربسرا. إن هذا المشروع يسعى للارتقاء بالمستوى العلمي على أركانه جميعاً:
-
الأساتذة المتميزين: حيث يُقدَّم لهم الدعم الذي يمكنهم من التفرغ لتقديم المادة العلمية المتميزة، والتي كان من الصعب جداً، بل من المستحيل غالباً، أن يُقدِم العديد منهم على هذا العمل دون وجود مشروع داعم لهم.
-
الجامعات: حيث يهدف المشروع إلى التعاون مع الجامعات، بحيث يتم اعتماد المواد الموجودة على عربسرا بما يضمن لهذه الجامعات أعلى جودة علمية على مستوى عالمي كما ذكرنا، لجميع طلابها، دون عناء توفير الأساتذة المتميزين والمادة العلمية العميقة، وجودة الشرح. وهو نموذج مختلف عن النموذج الحالي الموجود على بعض المنصات، حيث تقوم الجامعات المتميزة نفسها بوضع موادها العلمية على المنصة.
-
الطلاب: وهم الهدف الأساسي من المشروع، حيث يُقدَّم لهم العلم من الأساتذة المتميزين بالأسلوب الذي بيّنته أعلاه، وبشهادات معتمدة من جامعاتهم، بغض النظر عن المستوى العلمي لتلك الجامعات التي ينتظمون فيها أو ينتسبون إليها. هذا بالإضافة إلى المميزات اللوجستية الأخرى التي يجب أن تتوفر في أي نظام تعليمي عبر الإنترنت.
-
الخريجين: وهم فريقان. الفريق الأول يتكون من خريجين في نفس التخصص، لكنهم لم يحصلوا على جودة علمية كافية، ويعانون الآن من ضعف أو نقص في الأساسيات. أما الفريق الثاني، فيتألف من الذين يرغبون في تغيير مجالهم بعد التخرج، ولم يدرسوا هذه الأساسيات من قبل. كلا الفريقين يسعى إلى تحصيل الأساس والأصول العلمية المفقودة للتغلب على الرؤية الضبابية في المجال.
ختاماً
مشروع عربسِرا هو مشروع لرفع المستوى العلمي والأكاديمي للطلبة والأساتذة والجامعات على حد سواء. أكتب هذه الكلمات في أكتوبر ٢٠٢٤، بعد بضع شهور من إطلاق المرحلة الأولى منه والتي تتضمن القدر اليسير من الأهداف والمميزات التي ذكرت بعضها أعلاه. وضعت في هذا المشروع كل مجهودي ووقتي ومالي، دون أي تمويل أو دعم من أحد أو جهة بأي شكل من الأشكال حتى الآن.
هذا المشروع ليس مجرد قناة على اليوتيوب يختار صاحبها أن تكون مجانية. هذا المشروع لا يمكن أن يكون بهذه الرؤية والأهداف وبهذا الحجم والتأثير، بدون حقوق طبع ونشر وملكية فكرية وتكلفة مادية كبيرة، وهذا يتم تفصيله في المقالة ٣/٣.
هذه هي بداية المرحلة الثالثة، والتي لا أعلم هل سَيُكتَب لها النجاح كسابقتيها أم لا. لقد استُدرِجتُ لهذه المرحلة استدراجاً، بدءاً من عام ٢٠٠٩، حيث كان الهدف مجرد تعليم عشرات الطلبة لفهم مادة في قسم في كلية في جامعة في بلد، إلى أن صار مشروعاً يستهدف الطلاب والأساتذة والجامعات في مختلف أركان الوطن العربي.
أرجو من الكريم سبحانه وتعالى، كما كتب النجاح للمرحلتين السابقتين، أن يكتب النجاح لهذه المرحلة الأكبر والأصعب والأهم، وأن يكون ذلك الاستدراج هو من توفيق الله سبحانه وتعالى لي لخيري الدنيا والآخرة.